في العام 1987 كنت أحمل هذا اللقب الفخم (مدير الوحدة الصحية) بقرية (.....) القريبة من كفر الزيات، وهو لقب كنت أشعر بأنه واسع فضفاض علي في هذه السن المبكرة. لم أدرك مدى أهميتي إلا حينما سمعت الموظفين يتكلمون في غرفتهم الداخلية
ـ"بيقولوا الراجل حيمشي في أكتوبر .. حيروح الجامعة"ـ
أصابني الهلع لأن الرجل سيمشي، ثم فطنت إلى أنني هذا الرجل بعينه !.. إذن أنا كبرت وصرت خطرًا كالآخرين
عرفت المزيد عن خطورتي عندما كنت أركب سيارة نصف نقل مع أحد موظفي الوحدة، قاصدين الإدارة الصحية في كفر الزيات لتسلم شحنة أدوية. بما أن القصة حقيقية فإننا سنجعل اسمه (حسن).. قصير القامة أسمر لامع العينين ضيقهما. وقد قرر على الفور أن يريني أهميته ويثبت لي أنه لا غنى عنه .. جاءت سيرة كاتب الوحدة في الكلام، فقال لي بلهجة من لا يريد أن يقول أكثر
ـ"رجل طيب لكن والله أعلم .. والله أعلم .. شخصيته ضعيفة أمام زوجته"ـ
ابتسمت باعتبار المعلومة بالغة الأهمية وجوهرية لعملي، وعدنا نتكلم .. جاءت سيرة ممرضة في الوحدة، فقال في لهجة من يكره فضح بنات الناس
ـ"كنت سأتزوجها .. لكن لابد من تصديق العالمين بهذه الأمور .. أخلاقها سيئة .. إذن فيكن الأمر كذلك .. أخلاقها سيئة .."ـ
فيم يفيدني أن أعرف هذا ؟.. وما دخلي بأخلاقها؟.. هل سمع أنني أرغب في الزواج منها ؟.. بعد قليل كان قد حكى لي أسرار أسرار كل واحد من زملائه بالوحدة، ومنهم الديوث ومدمن المخدرات وضعيف الشخصية وخريج السجون والمختلس، حتى كأنه سجن القناطر وليس وحدة صحية. تساءلت في سري: الرجل يعرف أنني غير مهتم بهذه الأمور، وأنني راحل أصلاً عما قريب .. الأمر لا يزيد إذن على كونها عادة يريد تدريبها فلا تذبل، كما يحب عازف الكمان أن يعزف قليلاً قبل النوم .. يريد أن يكون الأذن السرية للمدير أي مدير
أبطأت السيارة عند كوم سباخ عال، وفلاح عجوز متهالك ممزق الثياب مال على النافذة يسأل
ـ"الجحف يا مصطفى ؟"ـ
أطلق السائق (مصطفى) سبة مليئة بالكبرياء .. نحن في مهمة حكومية حساسة يا بهائم، وأنتم تعتبرونها سيارة أجرة .. نسيت أن أقول إن الجحف هو (القحف)، وهو محطة مهمة جدًا في المشاوير الريفية .. كل مشوار ريفي في أي مكان لابد من أن تتضمن محطاته (الجحف – الجنطرة – الجباسة – المشروع).. هناك مشروع دائمًا .. ماذا ؟. لا تعرف معنى (القحف) أيضًا ؟.. حرام عليك .. القحف هو جذع شجرة غليظ نائم على الترعة بالعرض ويُستعمل كجسر مرتجل
يعاود الأستاذ (حسن) حكاياته.. هذه المرة يصمم أن يطلعني على ثقافته الدينية، بعد ما أظهر براعته في الاغتياب وأكل لحم إخوته موتى
ـ"الإيمان قدوة .. "ـ
يعنى إيه ؟ .. تركيب لغوي غريب جدًا .. مثلاً (المؤمن قدوة) مفهومة أكثر، لكنه يردد وهو يهز رأسه في خشوع
ـ"الإيمان قدوة .. "ـ
حتى شعرت أنه مغن شعبي من مطربي الموالد الذين سمعت ملايين من أغانيهم في هذه السيارات.. ذلك الخلط الفريد بين القصص الديني والخيال وأغاني أم كلثوم .. وبالفعل عرفت أنني محق عندما بدأ يحكي قصته .. كان يقول
لحظة حتى نسمع ما تقوله هذه المرأة البدينة التي تنحني على النافذة
ـ"المشروع يا مصطفى ؟"ـ
سبّها السائق .. مشروع إيه يا وليه يا مجنونة ؟.. العربية دي تبع الحكومة .. وانطلق بالسيارة بينما المرأة تسبنا جميعًا من بعيد
القصة كما حكاها لي الأخ حسن تدور حول طالب في كلية آداب طنطا .. الطالب من قريتهم وهو يعرفه جيدًا. يسهر الطالب ليلة الامتحان يدرس على لمبة الجاز حتى الثانية بعد منتصف الليل
لا تسألني عن سبب استعمال لمبة الجاز بينما القرية فيها كهرباء .. القصة دائمًا هكذا .. من دون لمبة جاز لا كفاح .. لسبب ما كان الطالب وحيدًا في داره عندما دق الباب
فتح الباب ليجد ست الحسن والجمال .. فتاة رائعة البهاء مذعورة باكية. قالت له إنها ضلت طريقها وما من مكان تبيت فيه إلا عنده .. هكذا قال لها الفتى: تعالي يا بنت الناس نامي هنا والصباح رباح
نامت الفتاة ولسبب ما – أيضًا – لا يوجد مكان تنام فيه سوى أمام الفتى. هكذا قضى الليل يغالب شهوته .. كلما أوشك الشيطان أن يهزمه مد يده ليلسع أنامله باللمبة الملتهبة .. من ثم يتذكر عذاب النار .. وجاء الصباح
عادت الفتاة إلى طنطا لتخبر أباها بالقصة كلها.. يبدو أن الخبيثة لم تكن نائمة إنما تتظاهر بذلك وتلعب بأعصاب الفتى. هرع أبوها إلى القرية يبحث عن هذا الفتى الشهم .. سأله عن الفتاة التي باتت عنده أمس فحكى له كل شيء .. تفحص الأب أنامل الفتى فوجد آثار الحروق واضحة جلية
تصور .. يتضح أن أبا الفتاة هو نفسه عميد كلية الآداب !.. الكلية التي يدرس الطالب فيها !.. وهكذا عمل على أن ينجح الفتى ويصير معيدًا بالكلية، ثم زوجه ابنته لأنه عرف كم هو رائع
وهتف حسن والدمع يبلل عينيه
ـ"قلت لك يا دكتور إن الإيمان قدوة !"ـ
وسمعت مصمصة شفاه فنظرت لأجد أن السائق موشك على البكاء تأثرًا بدوره .. لم يطل تأثره لأنه أخرج رأسه من النافذة ليسب طفلاً عاري النصف السفلي يلعب أمام السيارة .. ياد يا ابن الـ .. يا ابن الـ .. هنا قال حسن وهو يتمخط خارج النافذة
ـ"الإيمان قدوة .."ـ
نعم .. فقط أريد أن أعرف الإجابة عن بعض الأسئلة. كنت أعرف عميد كلية الآداب، فماذا تفعل ابنته بالضبط في قرية جوار كفر الزيات بعد منتصف الليل ؟.. وكيف وجد عميد كلية الآداب سيارة تنقله إلى الجحف ؟.. كما ترى القصة كلها تدور في فلك الحكايات الشعبية من طراز (تزوج بنت السلطان وعاشا في تبات ونبات). ثم إن كان الإيمان قدوة فعلاً فلماذا لا يعلمه الإيمان أن النميمة حرام وأن الاغتياب نوع من أكل لحم الموتى ؟.. ألا توجد لمبة جاز أخرى تلسعه كلما أوشك على اتهام واحد من زملائه في الوحدة ؟
رفعت رأسي فرأيت لافتة (الإدارة الصحية بكفر الزيات)، ففتحت الباب .. في المرة القادمة ذكروني ألا أصطحب معي (حسن) فجهازي العصبي لم يعد يتحمل أكثر. ...
حكايات الأستاذ حسن ..
د : أحمد خالد توفيق